مفهوم التواصل ومكوناته وأبعاده
من اعداد
عبد المجيد الدهبي
حمزة اوزين
رشيد اوجاتمهيد
إن تجربة الحس المشترك تشوش علينا كثيرا في تحديد المفاهيم فتجعلنا ننظر إلى فعل الانجاز بنوع من السهولة الأقرب إلى تبخيس ثقافة الجهد التكويني والنظري الأساس لأي سيرورة بحثية وفكرية وثقافية. وفي هذا السياق تبرز الصعوبة المركبة والمعقدة التي تواجهنا ونحن نفكر مفهوم التواصل الذي يبدو للمعرفة العامة السائدة - بسبب كثرة الثرثرة واللغو واللغط المتداول في وسط علاقاتنا الاجتماعية إلى حد إنهاك وإرهاق طاقة تحقق الفعل التواصلي الفعال والخلاق - على انه معطى طبيعي بديهي لا يحتاج إلى عناء جهد البحث والتفكير في وقت صارت تتجاذبه علوم مختلفة كعلوم اللغة والعلوم النفسية والاجتماعية والانتروبلوجية...التي اهتمت بكل الوقائع التواصلية لغة ولباسا وطقوسا وإيماءة وبكل ما يتعلق بأسلوب العيش ونمط الحياة المادية والرمزية والعمرانية المتعلقة بأشكال البناء في بعدها الفني الجمالي و التنظيمي والتخطيطي لفضاءات التمدن من طرق وشوارع...
هكذا يتبين لنا مدى الجهد الذي علينا بذله لتأسيس أفكار أولية حول المجال الشاسع والرحب الذي صار يطاله مفهوم التواصل حيث تعددت مستوياته، كالتواصل اللغوي، التواصل الاجتماعي، التواصل التربوي التواصل، المقاولاتي والإداري والجمعوي والسياسي و الاشهاري...
إلا أننا سنقتصر على انجاز أرضية معرفية تقربنا من هذا المفهوم ومن سيرورة تطوره انطلاقا من تعريفه وبيان أهميته وتحديد عملياته والتطرق إلى أبعاده الذاتية بالإضافة الى محاولة معرفة وفهم معوقات التواصل قصد الوصول إلى بناء أدوات ومفاهيم منتجة لمعرفة التواصل الفعال ولممارسته كفعل مجتمعي. وفي هذا نميز بين قوة وحرارة الفعل التواصلي كما يبدو في وجوده الإنساني الموضوعي وبين المقاربات النظرية التواصلية كتفكير افتراضي إجرائي يحاول إنتاج معرفة نسبية خاضعة للتعزيز والتعديل والتغيير حول أسس ومفاهيم واليات الفعل التواصلي.
أولا تعريف مفهوم التواصل
لم يكن المعنى المتعارف عليه اليوم لفعل " تواصل" وللاسم " التواصل" جاهزا وموروثا ثقافيا واجتماعيا عن القرون السابقة بل عرف هذا المعنى سيرورة ولادته وتكونه وتطوره عبر سياقات مجتمعية تاريخية عملت على اغنائه وإخصابه ليوافق الثورات المعرفية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية. فمثلا في اللغة الفرنسية" إلى حدود القرن السادس عشر كانت كلمتا communiquer و communication قريبتين جدا من كلمة communier وcommunion ...وبإمكاننا أيضا أن نربط هذين المفهومين من commmunier بمعنى " ملكية جماعية" ...وانطلاقا من هذا المعنى الذي يحدد معنى كلمة communiquer في " الاقتسام مع اثنين أو أكثر"...وبناء عليه ستبدأ كلمة communiquer في نهاية القرن دالة على الفعل " نقل" (نقل مرضا)... وهذا يدل على أن الاستعمالات الدالة عامة على "التقاسم" ستتراجع إلى الوراء لكي يحل محلها فعل " نقل " .إننا ننتقل من الكلي إلى الجزئي. وسيصبح القطار والهاتف والصحف وسائل " للنقل " أي وسائل للانتقال من أ إلى ب. إن معنى النقل هو ما سيتم تداوله في التصورات الفرنسية
أما بالنسبة للغة العربية فان فعل " وصل" في لسان العرب نجد المعاني التالية " وصلت الشيء وصلا وصلة والوصل ضد الهجران .الوصل خلاف الفصل، وصل الشيء بالشيء يصله وصلا وصلة". لكن هذه المعاني إلى جانب اسم " التواصل" قد عرفت تطورا بفعل صدمة الحداثة التي هزت المجتمعات العربية وأفرزت اكراهات وتحديات هذا الشرط التاريخي الاجتماعي، بفعل وحدة التاريخ العالمي الذي فرضته سيطرة وهيمنة الرأسمالية، ضرورة التثاقف الفكري والمعرفي والعلمي والتفاعل اللغوي والاجتماعي. ومن ثمة صار لفعل وصل ولاسم التواصل معنى زوجي أي مزدوج له بعد البلوغ والإبلاغ والترابط العلائقي فهو يتجاوز الفرد "الخالص" في ذاته كتحقق ماهوي ثابت لا يتغير ليؤسس لمعاني التحاور والتفاعل من التواصل الذاتي إلى مختلف أشكال التواصل الاجتماعي الإنساني.
و التواصل لم يتأسس كعلم إلا في الثلاثينات من القرن الماضي ولأغراض كانت بعيدة عن الانشغال بالتواصل الإنساني. فمثلا يعد نوربيرت فيينر أول من أسس علم السبيرنيطقا حيث كان مهتما بالمجال العسكري وبشكل خاص بالبحث العلمي الذي يسمح لمدفع ارضي مضاد للطائرات بإصابة هدفه المتحرك بسرعة فائقة. وفي هذا الأفق العلمي تبلور مفهوم الإرجاع feedback-rétroaction وهذا المفهوم " يعني قدرة الفعل المنجز آنيا أن يؤثر في سبب وجوده في ارتباطه بنسق يبرره. " فكل نتيجة تؤثر بشكل إرجاعي على سببها وكل شيء يجب أن ينظر إليه باعتبار بعده الدائري لا الخطي." وهذا ما استثمرته بعد ذلك علوم إنسانية كثيرة في اهتمامها بالتواصل الإنساني.
وهناك نماذج أخرى مثل خطاطة كلود شانون الذي كان مختصا بالاتصالات الهاتفية، وأيضا النموذج التواصلي لكجاكبسون الذي حدده في ست وظائف. و هكذا تطورت المقاربات النظرية لميدان التواصل الإنساني لتشمل كل المعطيات اللفظية والجسدية والإيمائية والفضائية والزمانية والثقافية...
وهذا ما أنجزه توماس هال من خلال إبداعه لمفهوم الإبلاغ الحيزي
proxémique
كمسافة دلالية تتمفصل مع الرسالة اللسانية
لذلك صار من الممكن تقديم تعريف جديد أكثر اتسعا وعمقا لمفهوم التواصل باعتباره " سيرورة اجتماعية لا تتوقف عند حد بعينه، سيرورة تتضمن عددا هائلا من السلوكات الإنسانية تشمل اللغة والإيماءات والنظرة والمحاكاة الجسدية والفضاء الفاصل بين المتحدثين. ولهذا سيكون من العبث الفصل بين التواصل اللفظي والتواصل غير اللفظي ذلك أن التواصل هو فعل كلي."
ثانيا عملية التواصل
مكوناتهاالمرسل= لا يمكن لأية عملية تواصلية أن تتم بدون مرسل يبعث بمجموعة من المعلومات لها معاني واعية قصد دفع مستقبل ما لإتيان فعل أو سلوك أو تجسيد موقف ما. كما يمكن أن تحمل تلك المعلومات معاني لاواعية تتجاوز إرادة المرسل.
المستقبل= انه الطرف الجدلي لتحقيق عملية التواصل وفي كثير من المواقف الحياتية الإنسان هو المستقبل." ولكن حديثا اقتبس علم المعلوماتية هذه الصيغة لصناعة وتشغيل الكومبيوتر على غرار عمل الذهن البشري خصوصا حين يغذي كومبيوتر رئيسي بعض المحطات الفرعية بالحلول والمعلومات ويتلقى منها المعطيات.
الرسالة= هي تلك المعلومات المشحونة بما اعتقده المرسل من معاني أراد توصيلها إلى المستقبل حسب خلفيات إستراتيجيته التواصلية. لذلك غالبا ما تتعدد أنواع الرسائل وفقا لأنواع التواصل والسياقات والأهداف والأطراف المستهدفة والمنخرطة في الفعل التواصلي
القناة= وهي الواسطة المادية لتحميل الرموز المعبأة بالمعاني فهناك القناة الشفهية والمكتوبة أو قنوات التلفون الانترفون التلكس التلفزيون ...الخ
كما توجد القناة التصويرية كالملصقات وكتابات الحائط وفوق الطاولات المدرسية ولوحات الإعلانات...
" نلاحظ أننا نستخدم في عملنا أكثر من قناة خلال القيام باتصالاتنا المرتبطة بنفس الموضوع. هذا التنوع طبيعي يرتبط بالسهولة والفعالية. إن ما يجدر بنا التفكير يصدده هو ترشيد استخدام القنوات.فأي قناة أفضل لأي نوع من الرسائل ولأي مستقبلين وفي أية ظروف. وأي قناة تعزز الأخرى."
ب ) عملية التواصل
رغم تحديدنا المنهجي لمكونات التواصل فهذا لايعني أنها تتم بنوع من السببية الطولية والميكانكية الوحيدة الجانب بل هي تتميز بالتفاعل الجدلي الحي بحيث يتبادل الطرفين الأدوار حيث يتحول المرسل إلى مستقبل والمستقبل إلى مرسل " وتسير عملية التواصل صعدا في شكل دينامي متطور نحو مزيد من التفاهم والايجابية أو التأزم والسلبية نحو التعاون أو الصراع." وبالتالي فان عملية التواصل تتميز بالتأثير والتأثر والتغيير والتغير في نوع من صيرورة النماء اللغوي و النفسي والمعرفي والاجتماعي والإنساني. ولذلك يمكننا أن نتحدث أثناء عملية التواصل عن مصطلحين أساسيين هما
إرجاع الأثر feedback فكل جواب من المستقبل وهو يأخذ موقع المرسل يعتبر بمثابة إرجاع للأثر وهذا ما يحفز المرسل على التفكير بجدية في عملية التواصل لأنه ملزم باستكمال رسالته بالتعزيز أو التعديل أو الحذف أو الإضافة أو بتغيير القنن تبعا لإرجاع الأثر الذي تلقاه
التشويش وهو أنواع كثيرة كالتشويش الفيزيقي الذي قد يصيب قناة الاتصال أو تشويش المعاني إلى جانب التشويش الذاتي الذي يعد أخطرها على عملية التواصل لأنه مرتبط بأحد طرفي التواصل أو هما معا وقد يكون بسبب الظروف الصحية أو المقامية كجلستنا غير المريحة أثناء الحوار أو في حصة الدرس." إلا أن اخطر أنواع التشويش الذاتي هي التحيزات المختلفة والأحكام المسبقة السلبية أو الايجابية التي قد تتعرض لها في علاقتك بمن تتواصل معه. وبالتالي تؤثر على تأويلك للرسائل التي تتلقاها من محدثك في اتجاه تحيزاتك.كما إنها تؤثر على إرسالك من خلال بث رسائل انفعالية مشحونة تعرقل الرسائل الموضوعية المهنية.
فبما أن التواصل سيرورة لفعل مجتمعي تفاعلي جدلي حي ودينامكي تتبادل فيه الذوات المتواصلة المواقع والأدوار فهو محكوم بأطر تحدد مصيره ومدى فعاليته
الإطار الفني أو التقني وهو يتعلق بنوعية القنوات المستعملة
الإطار النفسي الاجتماعي وهو يشمل كل ما يتعلق بالذات في تكوينها الذهني كعقلية مرنة أو متصلبة وبنية الشخصية في ثقافتها وقدراتها المعرفية العلمية ومستوى تفاعلها الاجتماعي مع الآخرين أي ما يسمى بالذكاء الانفعالي. وأيضا كل ما يتعلق بالتفاعلات العلائقية الحاصلة بين الأطراف المنخرطة في التواصل.
الإطار الثقافي هو الذي يتحكم ويوجه ويقود ويراقب عملية التواصل انطلاقا من المعايير والقيم الثقافية والاجتماعية ومساحات المسموح والممنوع وأشكال التراتب الاجتماعي المحددة للكلام ولسلطة الخطاب.
كثيرا ما يؤدي النقص المعرفي في المستوى العلمي الثقافي للإنسان إلى خلل كبير في فهم ومعرفة ذاته والآخرين والعالم و ذلك بسبب نظرته التجزيئية المحدودة الأبعاد والقاصرة عن إدراك الوجوه الأخرى لكل الظواهر والقضايا التي يفرضها واقعه الحي المتغير والمتحول التاريخي الاجتماعي مما يؤثر سلبيا في سيرورة نموه ونمائه على مستوى توسيع فضاء انفتاحه على الآخرين والعالم الشيء الذي يحرمه من تحقيق تقدير الذات بصورة ايجابية وعيش الاعتراف المتبادل. لهذا نرى ضرورة التطرق للأبعاد الذاتية للاتصال لما له من دور في تحقيق تواصل ناجح.
الإدراك الانتقائي هو الذي يمارسه الناس غالبا في كثير من الوضعيات التواصلية التي يتفاعلون فيها في حياتهم الذاتية الخاصة أو الاجتماعية العامة. وهذا ما يؤدي إلى الاكتفاء بالأبعاد السطحية والمحدودة في فهم وتفسير وتأويل الظواهر الطبيعية والمجتمعية. وهي مسالة طبيعية مرتبطة بطبيعة عمل جهازنا العصبي المزود بمصفاة إدراكية لها صلة بالدوافع الإنسانية وباقتصاد الجهد المبذول. لكن عملية الانتقاء هذه غالبا ما تؤدي إلى مشاكل عويصة أمام أي تواصل ناجح وفعال وذلك بسبب التفاوت المعرفي والثقافي بين الناس وتباين التجارب والخبرات المكتسبة من الواقع المادي المتميز بالتناقض والصراع الفكري
ليس من السهل الوصول إلى تواصل ناجح فعال خاصة في المجتمعات المتخلفة التي يغيب فيها نيل الاعتراف بالذات وتقدير واعتبار قيمتها الإنسانية بسبب انغلاقها وتمركزها حول نفسها مع العداء الذي تكنه للأخر و الغريب والأجنبي. وهذا ما يجعل العقلية المتخلفة لا تعي بان الإنصات يشكل المعطى الموضوعي الضروري لأي تواصل فعال ولذلك يقال " المتحدث الجيد هو المستمع الجيد". حيث لا يمكن أن نتحدث عن التواصل بدون استحضار فن الاستماع. إذ يتفق الطرفان حول المعنى الضمني والصريح الذي تستهدفه الرسالة المتفاعلة بين المتحدث والمستمع.
مبادئ التواصل الناجح من خلال الإجابة على ست أسئلة
لماذا= تحديد الهدف من الاتصال بشكل واضح ودقيق لعيدا عن أي تشويش أو التباس
ماذا= تحديد مضمون الرسالة بمعرفة نوع اللغة اللسانية والجسدية القادرة على حمل أفكار محددة وضامنة لإنجاح التواصل وتحقيق الأهداف
من = تحديد الأخر الذي نود التواصل معه من خلال محاولة جمع اكبر قدر من المعلومات حوله في صفاته وخصائصه نوع الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها...
متى = مسألة الوقت المناسب تترابط مع التمكن من الإجابة عن السؤال السابق
إرجاع الأثر = يتوقف التواصل الفعال على مدى قدرتنا على قراءة رد فعل المستقبل فهما ومعرفة وتأويلا لان المستقبل في هذه الوضعية بمثابة إستراتيجية موجهة ومحددة لكل خطواتنا اللاحقة ولكي يصل الباث إلى هذا المستوى المثالي من التحكم والتوجيه والتطوير لإرجاع الأثر لابد أن يكون مكتسبا للأرضية المحورية الديناميكية لفعل التواصل وهي فن الإنصات التي غالبا ما تهمشها العقلية المتخلفة بسبب القيم العمودية التي تعتمد الأمر والطاعة من الكبير إلى الصغير ومن الرئيس إلى المرؤوس ومن الرجل إلى المرأة...
وهذه العقلية الأحادية المشبعة بامتلاك الحقيقة المطلقة أضرت كثيرا بضرورة اكتساب مهارة الاستماع مما جعلنا مجتمعات يغيب فيها التواصل بكثرة تلوث ضجيج الكلام القاتل للتفاعل والحوار التواصلي الحقيقي.
تجنب تصنيف المتحدث وإطلاق الأحكام عليه
المراجع
الاتصال الفعال د مصطفى حجازي
العامل النفسي والاتصال محمد الامين موسى
مجلة علامات العدد 21 سنة 2004
شكرا على لاشئ
اسف لم اكن اعرف انكم تستمعون
مفهوم التواصل ومكوناته وأبعادهمن اعداد عبد المجيد الدهبي حمزة اوزين
By mjid eddahbi
مفهوم التواصل ومكوناته وأبعادهمن اعداد عبد المجيد الدهبي حمزة اوزين
- 4,279